مثالٌ تحدَّثت عنهُ سورةُ يونس عن تغيير مجرى الوقائعِ المستقبليَّةِ
وصف للمقطع

مثالٌ مهمٌّ تحدَّثت عنهُ سورةُ يونس.

ما يرتبطُ بما جرى على قومِ يونس النَّبي، في الآيةِ الثامنةِ والتسعين بعد البسملةِ من السورة: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين﴾.

"فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا"؛ بعد أن أُقيمت عليها الحُجج، وانتهى الوقتُ الَّذي يُقبلُ فيهِ إيمانها، حتَّى لو آمنت بعد ذلك فإنَّ إيمانها لن يكونَ نافعاً، وهذا يعودُ بنا إلى قانونِ الغَيْبَةِ والظهور: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ نَفْسَاً إِيْمَانُهَا لَمْ تَكُن آمَنَت) هكذا هو المضمونُ الإجماليُّ لقانون الغَيْبَةِ والظهور، متى؟ في يوم الظهور حينما يؤمنُ الَّذينَ أُقيمت عليهم الحُججُ زمانَ الغَيْبَة وليس الَّذينَ لم تُقَم عليهم الحُجَج، الَّذينَ لم تُقَم عليهم الحُجج بإمكانهم أن يؤمنوا في يوم الظهورِ وأن ينتفعوا من إيمانهم، الَّذينَ لن ينتفعوا من إيمانهم في يوم الظهورِ أولئكَ الَّذين أُقيمت عليهم الحُجج، الكلامُ عن الشيعةِ وليس عن غيرهم، إلَّا إذا أُقيمت حُججٌ على غير الشيعةِ من نواصب السقيفةِ أو من غيرهم، الواقعُ الَّذي نراهُ فإنَّ الحُجج لم تقم لا على أتباع السقيفة ولا على أتباعِ الدِّياناتِ الأخرى، لأنَّنا نتحدَّثُ عن حُججٍ لابُدَّ أن تأتي في سياقٍ يكونُ مقبولاً، يكونُ مُقْتَنَعاً بهِ عندَ الأطراف الَّتي تُقامُ عليها الحُجج.

على سبيل المثال الَّذين يُتابعونَ برامج قناة القَمرِ من الشيعةِ المتديّنين: فإنَّ برامجَ هذهِ القناة وبامتيازٍ تُقيمُ الحُججَ على الشيعةِ بالحقائقِ والدقائق وبالأدلَّةِ والوثائق الَّتي لا يستطيعونَ أن يُقاوموها، لو كانَ بإمكان الشيعةِ أن يقاوموها لردُّوا عليها، لا يستطيعون أن يردُّوا عليها لأنَّها حقائق. نعم يُشوّهون سُمعتي، يُشوّهون سمعة قناة القمر، يمنعون النَّاسَ من التواصلِ معَ هذهِ القناة، هذا أمرٌ يفعلونهُ على طول الخط، لكنَّ هذا لا علاقة لهُ بقوَّة الحُجَّةِ ووضوحها وبإقامةِ الحُجَّةِ عليهم، هذا شأنٌ آخر، تلكَ مشكلتهم وذلكَ هوَ موقفهم من هذهِ الحُججِ القاطعةِ الواضحة، إنَّما أتحدَّث عن حُججٍ قاطعةٍ واضحة لا لأنَّني أطرحها، لأنَّها ثقافةُ الكتابِ والعترة، هذه حُججٌ تُقامُ من عُمقِ معارفِ مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهم أجمعين.

﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ - آمنت حينما أقيمت عليها الحُججُ في السياقِ الصحيح، لكنَّها رفضت، وبعدَ ذلكَ في الوقت الضائعِ عادت فآمنت فإنَّ إيمانها لن ينفعها لأنَّ الَّذي قُدِّرَ لها في مستقبلِ أيَّامها هوَ الَّذي سيقعُ عليها - فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ - هؤلاءِ أُقيمت عليهم الحُجج وما استجابوا لها ودخلوا في الوقت الضائع، ولكنَّهم استطاعوا بعلمٍ من عالـِمٍ عندهم أن يُغيّروا ما قُدِّرَ لهم في مُستقبل أيَّامهم - لَمَّا آمَنُواْ - في الوقت الضائع، في الوقت الذي ما كانَ يقدرُ لإيمانهم أن يكونَ نافعاً لهم لأنَّ الحججَ أُقيمت عليهم ورفضوها وانتهت المهلةُ.

ماذا يُحدِّثُنا حديثُ مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ صلواتُ الله عليهم عن هذهِ الوقائع؟

في (تفسير القُمّي) رضوان الله تعالى عليه/ طبعة مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت/ لبنان/ الصفحةِ الخامسةِ والتسعين بعد المئتين/ القُمّي عليٌّ بن إبراهيم يقول: حَدَّثَني أَبِي - أبوهُ إبراهيمُ بن هاشمٍ القُمّي - عَن ابنِ أَبِي عُمَير - إنَّهُ مُحمَّدٌ بن أبي عُمير من أجلَّةِ أصحابِ أئِمَّتنا - عَن جَمِيل - إنَّهُ جميلٌ بنُ درّاج من أصحابِ إمامنا الصَّادقِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليه يصفونهُ؛ "بأنَّهُ أَعْبَدُ أصحاب الصَّادق"، جميلٌ بن درّاج يُحدِّثنا عن إمامِنا الصَّادِقِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليه: مَا رَدَّ اللهُ العَذَابَ إِلَّا عَن قَومِ يُونُس - مثلما قالت الآيةُ.

لأنَّ العذاب يأتي متى؟ في الوقت الضائع، تُقامُ الحُججُ على الأمم، إذا استجابت الأُمَّةُ للحُججِ هنيئاً لها، وإذا رفضت تُعطى مُهلةً، وبعد المهلةِ يبدأُ الوقت الضائع، وفي الوقت الضائعِ حينئذٍ ينزل العذاب، وإذا نزلَ العذابَ فليسَ هُناكَ من أحدٍ قادرٍ على رَدّهِ، العذابُ قد يكونُ ماديَّاً، والعذابُ قد يكونُ معنويَّاً.

- وَكَانَ يُونُس يَدْعُوهُم إِلَى الإِسْلَام - الإسلامُ هو دينُ كُلِّ الأنبياء، دِينُ موسى الإسلام، ودِينُ عيسى الإسلام، ودِينُ أبينا آدم الإسلام، ودِينُ إبراهيمَ الإسلام، ودينُ يُونس الإسلام، الإسلامُ هو الدِّينُ على طول الخط، هناكَ قاعدةٌ قُرآنيَّةٌ واضحة: (إِنَّ الدِّيْن عِنْدَ اللَّه الإِسْلَام)، هذهِ القاعدةُ ليست خاصَّةً بزمانِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليهِ وآله، هذهِ القاعدةُ تتحدَّثُ عن الدِّينِ على طول الخط حتَّى قبلَ أبينا آدم للأمم الَّتي عاشت على هذهِ الأرض، وحتَّى للأمم الأخرى الَّتي في كوننا الواسعِ الفسيحِ هذا، الدِّينُ دِينُ الله وهو دينٌ واحدٌ، وهذا الدِّينُ عنوانهُ الإسلام.

وهذا الإسلامُ بحسبِ ثقافةِ الكتابِ والعترة؛ "الإسلامُ هو التَّسليم"، هذا تعريفهُ، التَّسليمُ لِمَن؟ التَّسليمُ لـمُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهم أجمعين. في زماننا الإسلامُ هو التَّسليمُ للحُجَّةِ بن الحسن العسكري هذا هو الإسلام.

وهذا الإسلامُ هو الإيمانُ بعينهِ، الإسلامُ والإيمانُ بمعنىً واحد، قد يبدو أنَّ الإسلام لهُ تعريفٌ وأنَّ الإيمانَ لهُ تعريفٌ، هذا الكلامُ ينطبقُ انطباقاً واضحاً في مرحلةِ التَّنزيل، ومرحلةُ التَّنزيل قد نُسخت، منذُ بيعة الغديرِ دخلنا في مرحلة التَّأويل، في مرحلة التَّأويلِ الإسلامُ هُو الإيمان والإيمانُ هُو الإسلام، وإذا أردنا أن نُفَرِّقَ بينَ الإسلامِ والإيمانِ في مرحلة التَّأويل فهذا تفريقٌ مجازيٌّ، هذا تفريق فيه مُسامحةٌ، فيه مُساهلةٌ.

- وَكَانَ يُونُس يَدْعُوهُم إِلَى الإِسْلَام فَيَأبُونَ ذَلِك فَهَمَّ أَنْ يَدْعُو عَلَيهِم وَكَانَ فَيهِم رَجُلان؛ "عَابِدٌ وَعَالِـم"، وَكَانَ اِسْمُ أَحَدِهِمَا مَلِيخَا - هذا هو العابد، العابدُ مليخا - وَالآخَرُ اِسْمُهُ رُوبِيل - وهذا هو العالِـم - فَكَانَ العَابِدُ يُشِيرُ عَلَى يُونُسَ بِالدُّعَاءِ عَلَيهِم - هذهِ مشورتهُ ليُونُس أن يدعو على قومهِ بعد أن رفضوا الاستجابة للحُجج الَّتي أقيمت عليهم - وَكَانَ العَالِـمُ يَنْهَاه وَيَقُول: لَا تَدْعُو عَلَيهِم فَإِنَّ الله يَسْتَجِيبُ لَك - أنت نَبيٌّ إذا ما دعوتَ عليهم فإنَّ دُعاءكَ سيُستجاب وسيحلُّ فيهم ما يحلُّ فيهم - فَإِنَّ الله يَسْتَجِيبُ لَك وَلَا يُحِبُّ هَلاكَ عِبَادهِ - الله سبحانهُ وتعالى سيستجيبُ لكَ إجلالاً لمقامك يا نبيَّ الله، لكنَّ الله في الوقتِ نفسهِ لا يُحبُّ هلاكَ عِبادهِ - فَقَبِلَ قَولَ العَابِد - النَّبيُّ يُونُس قَبِلَ قولَ العابد لأنَّهُ رأى قومهُ مُستحقّينَ للهلاك - وَلَم يَقبَل مِنَ العَالِـم فَدَعَا عَلَيهِم - دعا يُونس النَّبي على قومهِ، قطعاً هذا الدعاءُ في الوقت الضائع بعد أن أقامَ عليهم الحُجج وأعطاهم المهلة الكافية ولكنَّهم ردُّوا عليهِ بالباطل - فَأَوحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيه؛ يَأتِيهِمُ العَذَاب فِي سَنَةِ كَذَا وَكَذَا فِي شَهْرِ كَذَا وكَذا فِي يَومِ كَذَا وكَذَا، فَقُدِّر لِقَومِ يُونُسَ العَذَاب، فَلَمَّا قَرُبَ الوَقت خَرَجَ يُونُسُ مِن بَينِهِم مَعَ العَابِد - مع مليخا - وَبَقِيَ العَالِـمُ فِيهَا - بقي العالِـمُ في المنطقة الَّتي فيها قومُ يُونُس في مدينةِ قوم يُونُس - فَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ اليَوم نَزَلَ العَذَاب - في اليوم الَّذي أخبرَ الله بهِ يُونُس، ويُونُسُ أيضاً أخبرَ العابِدَ والعالِـم ووصلَ الخبرُ إلى قومِ يُونُس - فَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ اليَوم نَزَلَ العَذَاب فَقَالَ العَالِـمُ لَهُم: يَا قَوم، يَا قَوم اِفْزَعُوا إِلَى الله فَلَعَلَّهُ يَرْحَمُكُم وَيَرُدُّ العَذَابَ عَنْكُم، فَقَالُوا: كَيفَ نَصْنَع؟ قَالَ: اِجْتَمِعُوا وَاخْرُجُوا إِلى الـمَفَازَة - المفازةُ الصحراء إلى الأرض الخالية - وَفَرِّقُوا بَينَ النِّسَاءِ وَالأَوْلَاد - بينَ الأُمَّهاتِ وأبنائها - وَبَينَ الإِبلِ وَأَوْلَادِهَا وَبَينَ البَقَرِ وَأَوْلَادِهَا وَبَينَ الغَنَمِ وَأَوْلَادِهَا - لأنَّ أصواتَ الأطفالِ سترتفع وكذلك أصواتُ أولاد الحيوانات سترتفع - ثُمَّ أبْكُوا، أبْكُوا وَادْعُوا، فَذَهَبُوا وَفَعَلُوا ذَلِكَ وَضَجّوا وَبَكُوا فَرَحِمَهُم الله وَصَرَفَ عَنْهُمُ العَذَاب وَفَرَّقَ العَذَابَ عَلَى الجِبَال - الجبالُ الَّتي كانت تُحيطُ ببلادهم فإنَّ العذابَ قاربَ رؤوسهم - وَقَد كَانَ نَزَلَ وَقَرُبَ مِنهُم، فَأَقْبَلَ يُونُس بَعدَ ذَلِكَ لَيَنْظُرَ كَيْفَ أَهْلَكَهُم الله، فَرَأى الزَّارِعِين يَزْرَعُونَ فِي أَرْضِهِم، قَالَ لَهُم: مَا فَعَلَ قَومُ يُونُس؟ فَقَالُوا لهُ وَلَم يَعرِفُوهُ - لأنَّهُ قد جاءهم بعد مُدَّةٍ - فَقَالُوا لهُ وَلَم يَعرِفُوهُ: إِنَّ يُونُس دَعَا عَلَيهِم فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهُ وَنَزَلَ العَذَابُ عَلَيهِم فَاجْتَمَعُوا وَبَكُوا ودَعوا فَرَحِمَهُم الله وَصَرَفَ ذَلِكَ عَنْهُم وَفَرَّقَ العَذَابَ عَلَى الجِبَال، فَهُم إذاً يطلبونَ يُونُسَ لِيُؤمِنوا بِه - هم في انتظارِ قُدومِ يُونُس، الحكايةُ لها تفصيلٌ - فَغِضَبَ يُونُسُ ومَرَّ عَلَى وَجَههِ مُغَاضِبَاً لِلَّهِ كَمَا حَكَى الله - إلى آخرِ قصة يُونُس النَّبي، ليسَ حديثنا عن قصةِ يُونُس النَّبي، وإنَّما عن قومهِ.

المجموع :2679

العنوان الطول روابط البرنامج المجموعة الوثاق