المقامُ البشري المقيَّد والمقامُ البشري المطلق للمعصوم في الزيارة الجامعة الكبيرة
وصف للمقطع

في دستورنا العقائدي الأصيل، الزيارةِ الجامعةِ الكبيرة، الزيارةُ تحدَّثت عن المقامَين في جهاتٍ عديدةٍ مما وردَ فيها من بياناتٍ بليغةٍ دقيقةٍ عميقة.

في (مفاتيح الجنان)، ما نقرأهُ هنا في عبائر الزيارةِ الشريفة ونحنُ نُخاطِبُهُم نُخاطِبُ أشخاصَهُم: وَدَعَوْتُم إِلَى سَبِيلِهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة، وَبَذَلْتُم أَنْفُسَكُم فِي مَرْضَاتِه، وَصَبَرْتُم عَلَى مَا أَصَابَكُم فِي جَنْبِه، وَأَقَمْتُم الصَّلَاةَ وَآتَيْتُم الزَّكَاةَ وَأَمَرْتُم بِالْمَعْرُوف وَنَهَيْتُم عَنِ الْمُنْكَر وَجَاهَدْتُم فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِه حَتَّى أَعْلَنْتُم دَعْوَتَه وَبَيَّنْتُم فَرَائِضَه وَأَقَمْتُم حُدُوْدَه وَنَشَرْتُم شَرَائِعَ أَحْكَامِه وَسَنَنْتُم سُنَتَّه وَصِرْتُم فِي ذَلِكَ مِنْهُ إِلَى الرِّضَا وَسَلَّمْتُم لَهُ القَضَاء وَصَدَّقْتُم مِن رُسُلِهِ مَن مَضَى فَالرَّاغِبُ عَنْكُم مَارِق وَاللَّازِمُ لَكُم لَاحِق وَالْمُقَصِّرُ فِي حَقِّكُم زَاهِق - هذهِ بياناتٌ واضحةٌ وواضحةٌ جِدَّاً عن المقام البشري المقيَّد، فَكُلُّ هذهِ التفاصيلُ قيودٌ لمقامِ المعصوم، هذا هو مقامُ الأسوة، نحنُ نتأسَّى بهذا المقام، لا نتأسَّى بما تقولهُ الزيارةُ الشريفة: (وَإِيَابُ الخَلْقِ إِلَيْكُم وَحِسَابُهُم عَلَيْكُم)، ماذا نتأسَّى بهذا المعنى؟! ما علاقَتُنا بهذا المعنى؟!

وتستمرُّ الزيارةُ الشريفةُ - وَالْحَقُّ مَعَكُم وَفِيْكُم وَمِنْكُم وَإِلَيْكُم وَأَنْتُم أَهْلُهُ وَمَعْدِنُهُ وَمِيْرَاثُ النُّبُوَّةِ عِنْدَكُم - هذا مقامٌ برزخيٌّ فيما بينَ المقامِ البشري المقيَّد والمقام البشري المطلق - وَإِيَابُ الخَلْقِ إِلَيْكُم - تَجلَّى المقامُ البشريُّ الـمُطلق - وَحِسَابُهُم عَلَيْكُم - أين التأسّي في قول الزيارةِ: (وَمِيْرَاثُ النُّبُوَّةِ عِنْدَكُم)؟ وأين التأسّي في قول الزيارةِ: (وَالْحَقُّ مَعَكُم وَفِيْكُم وَمِنْكُم وَإِلَيْكُم)؟ فهل أستطيعُ أن أكونَ كذلك؟ حتَّى لو أصبحتُ نَبِيَّاً من الأنبياء فإنَّني لا أستطيعُ أن أكون كذلك، فما الأنبياءُ إِلَّا مِن شيعتهم.

عبائرُ أخرى من الزيارةِ نفسها من الزيارةِ الجامعة الكبيرة تُحدِّثنا عن المقامِ البشري الـمُطلق للإمامِ المعصومِ من مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد، هكذا نُخاطبهم: بِأَبِي أَنْتُم وَأُمِّي وَنَفْسِي وَأَهْلِي وَمَالِي مَن أَرَادَ اللهَ بَدَأ بِكُم وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُم وَمَن قَصَدَهُ - المكتوب هنا: (تَوَجَّه بِكُم) نُسخةٌ مُحرَّفة - تَوَجَّه إِلَيْكُم - لقد حُرِّفت الزيارةُ الجامعة الكبيرة في نُسختها في كتابِ الفقيه لشيخنا الصَّدوق، هكذا وردت في كتاب الفقيه: (وَمَن قَصَدَهُ تَوَجَّه بِكُم)، وحُرِّفت أيضاً في كتاب التهذيب لشيخنا الطوسي لشيخ الطائفة، بالنتيجةِ نحنُ من هذهِ الطائفة وهذا هو شيخها فماذا نصنع؟! حُرِّفت في كتابهِ التهذيب، لكن في عُيون الأخبار لشيخنا الصدوق بقي النصُّ الصحيحُ لم يلتفتوا إلى أنَّ نصَّاً للزيارةِ الجامعةِ الكبيرة كان موجوداً في العُيون، فَحرَّفوا المصدرين الرئيسين.

هذهِ مرحلةٌ تمهيديّةٌ يتواصلُ فيها المقامُ البشري المقيَّد مع المقام البشري المطلق، مِن حيثُ نحنُ لا مِن حيثُ هُم، من حِيثُ هُم حقيقةٌ واحدة، الإمامُ المعصومُ حقيقةٌ إلهيَّةٌ ربَّانيَّةٌ واحدة، حقيقةٌ متماسكة من أوَّلها إلى آخرها، إنَّهُ هُوَ الَّذي يتحدَّثُ عنهُ دُعاءُ السَّحر: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ جَمَالِكَ بِأَجْمَلِهِ)، هُوَ أجملُ الجمال، هُوَ أجلُّ الجلال، هُوَ أكملُ الكمال، هُو أعظمُ العظمة، هُوَ أنورُ النُّور، إلى بقيَّة المضامينِ في الدعاء الشريف، هذا الكلامُ من حيثُ نحنُ، فإنَّ النُّخَعي حينَ سَألَ الإمامَ الهادي ماذا قال لهُ؟

(عَلِّمْنِي يَا ابْنَ رَسُولِ الله قَوْلَاً أَقُولُهُ بَلِيْغَاً كَامِلاً إِذَا زُرْتُ وَاحِدَاً مِنْكُم)، هذا ما هو بقولٍ أنتَ تقولهُ يا ابن رسول الله بحسبكَ، هذا قولٌ تقولهُ لي بحسبي أنا، الجوابُ يأتي على قَدرِ السؤال، حينما نسألُ حكيماً بسؤالٍ فإنَّ الحكيم يُجيبُ بِقدرِ السؤال، إذا أجابَ بإجابةٍ فيها زيادةٌ على السؤال هذا ما هو بحكيم، مِن هُنا جاءت الزيارةُ الجامعةُ الكبيرة بحسبي أنا وبحسبكم أنتم.

"مَن أَرَادَ اللهَ بَدَأ بِكُم وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُم"؛ هذا تمهيدٌ وتواصلٌ ما بين المقام البشري المقيَّد والمقام البشري المطلق.

"وَمَنْ قَصَدَهُ تَوَجَّهُ إِلَيْكُم"؛ هذا هو المقامُ البشري المطلق.

مَوَالِيَّ لَا أُحْصِي ثَنَاءَكُم وَلَا أَبْلُغُ مِنَ الـمَدْحِ كُنْهَكُم وَمِنَ الوَصْفِ قَدْرَكُم - الحديثُ عن المقام البشري المطلق - وَأَنْتُم نُوْرُ الأَخْيَار - فهل أنا أستطيعُ أن أكونَ في مقامِ التأسِّي والاقتداءِ بهذا الوصف؟ - وَهُدَاةُ الأَبْرَار وَحُجَجُ الجَبَّار - فهل سأكونُ حُجَّةً أنا؟ - بِكُم فَتَحَ الله وَبِكُم يَخْتِم وَبِكُم يُنَزِّلُ الغَيْث وَبِكُم يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْض - هذهِ الوجوهُ لا نتأسَّى نحنُ فيها وإنَّما نتوجَّهُ إليها، هذا المقامُ نحنُ نتوجَّهُ إليهِ - إِلَّا بِإِذْنِه وَبِكُم يُنَفِّسُ الهَمّ وَيَكْشِفُ الضُرّ وَعِنْدَكُم مَا نَزَلَت بِهِ رُسُلُه وَهَبَطَت بِهِ مَلَائِكَتُه.

إلى أن تقول الزيارةُ الشريفة: آتَاكُم اللهُ مَا لَم يُؤْتِي أَحَدَاً مِنَ العَالَمِين - آتاكم الله ما لم يؤتي أحداً من العالمين لأنَّ العالَمين كُلَّهم خاضعونَ لِسُلطةِ الأسباب، أمَّا أنتُم في المقام البشري المطلق أنتُم فوقَ الأسباب، وحتَّى في المقام البشري المقيَّد كانت الأسبابُ تجري عليكم باختيارٍ منكم، فهذا هو مقامُ الأُسوةِ ومقامُ الرَّحمةِ بالعباد - طَأْطَأَ كُلُّ شَرِيفٍ لِشَرَفِكُم - في أصلِ وُجودهِ ليسَ الحديثُ هنا عن حالاتِ الاختيار - وَبَخَعَ كُلُّ مُتَكَبِّرٍ لِطَاعَتِكُم - بَخَع خَضَع أَقَرَّ أذعن - وَخَضَعَ كُلُّ جَبَّارٍ لِفَضْلِكم - نحنُ لا نتحدَّثُ هنا في المقامِ البشري المقيَّد، المقامُ البشري المقيَّد هُو الَّذي تجلَّى في أرضِ عاشوراء بالنسبةِ لسيِّدِ الشُّهداء، وهُو الَّذي تجلَّى في مسجد الكوفةِ بالنسبةِ لأميرِ المؤمنين، هذا هو المقامُ البشري المقيَّد، أمَّا المقامُ البشري المطلق: (إنَّ قَتِيلَنَا لَم يُقْتَل، إِنَّ مَيِّتَنَا لَم يَمُت).

الكلامُ هنا في أصلِ وجودهم في أصلِ تكوينهم بقرينةِ ما جاء بعد كُلِّ هذهِ العبائر: وَذَلَّ كُلُّ شَيءٍ لَكُم - فالمقامُ هُنا ليس في مقامِ الاختيار بالنسبةِ لهؤلاء للشريفِ وللمُتكبّرِ وللجبّار، موقفهم هنا بملاحظةِ المقامِ البشري المطلق - وَذَلَّ كُلُّ شَيءٍ لَكُم، وَأَشْرَقَت الأَرْضُ بِنُوْرِكُم - إلى آخرِ الزيارةِ الشريفة.

أعتقدُ أنَّ المعاني صارت واضحةً إلى حدٍّ ما، الإمامُ بما هُوَ الإمام نحنُ لا نعرف كُنههُ، في الرواياتِ عندنا: (مِن أنَّ المؤمن لا يُعرَفُ كُنههُ)، المؤمنُ الشيعيُّ لا يُعرَفُ كُنههُ، ففي المؤمنِ جهةٌ يَشبَهُ فيها إمامه، هذهِ الجهةُ هي الَّتي لا يُدرَكُ كُنهها، المؤمنُ لا يُعرَفُ كُنهه، فماذا نقولُ عن الإمامِ حينئذٍ؟

في دُعاءِ النُدبةِ الشريف:

ثلاثُ جُمَل ثلاثُ عبائر تختصرُ الحديثَ كلَّهُ وقد جاءت بالترتيب، في (مفاتيح الجنان)، هذا الدعاءُ في كُتب الأدعيةِ معروفٌ من أنَّهُ مرويٌّ عن إمامنا الصَّادقِ ومن أنَّهُ مرويٌّ أيضاً عن إمامِ زماننا الحُجَّة بن الحسن صلواتُ اللهِ عليهم جميعاً، قطعاً هو دعاءٌ ضعيفُ السَّندِ بالنسبةِ إلى مُؤسَّسةِ التَّقزيم، إلى حوزةِ التَّقصير، إلى المراجعِ الـمُرجئة، إلى الحوزةِ البَتْريَّة.

العبارةُ الأولى: أَيْنَ بَابُ اللهِ الَّذِي مِنْهُ يُؤْتَى - المقامُ البشري المقيَّد، هذا هو البابُ الَّذي نتواصلُ معه.

العبارةُ الثانية: أَيْنَ وَجهُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الأَوْلِيَاء - المقامُ البشري المطلق.

العبارةُ الثالثة: أَيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاء - المقامُ الجامع، المقامُ الجامِعُ بينَ المقامين، إنَّهُ المعصومُ الحقيقةُ المغلقة.

المجموع :2701