وصف للمقطع
أفقٌ آخر هُناكَ في القرآنِ ما يُمكِنُ أن أصَفِهُ؛ "بأسلوبِ المطايبة"، وأسلوبُ المطايبةَ هذا لهُ صورٌ، آياتٍ من القُرآنِ تتناولُ هذا المعنى بحسَبِ أسلوب المطايبة، المطايبةُ تكونُ بينَ الأحباب، المطايبةُ تعني حديثاً بألفاظٍ يفهمُها المحبُّونَ فيما بينَهُم وهذا نوعٌ من أنواعِ المعاريض لونٌ من ألوانِها.
في سورةِ يس، الآيةِ الثلاثين بعدَ البسملة: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَىٰ الْعِبَادِ - اللَّهُ يتحسَّرُ على العِباد، اللَّهُ أجلُّ مِن أن يتحسَّر، هذهِ مِن شؤوني وشؤونكم مِن شؤونِ المخلوق - مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾، هل أنَّ اللّه ما كانَ يعلَمُ بهذا حتَّى استهزئ المستهزئونَ بالرُّسُلِ فتحسَّرَ اللّهُ عليهِم؟! اللَّهُ لا يتحسَّر، هذا شأنٌ مخلوقيٌّ، لكنَّ اللّهِ يتحدَّثُ بهذا الحديث وكأنَّهُ بشرٌ، هذا حديثُ المطايبةِ، حِينما يُطايبُ السيـﱢـدُ عبيدَهُ، من كانَ لَهُ صبيٌّ فليتصابى لَه، إنسانٌ عظيمٌ صفتهُ السَّكِينَةُ والوقَار، وهذا هو شأنهُ بينَ النَّاس ولكن في البيتِ صبيٌّ مِن أولادهِ، يتحوَّلُ معهُ إلى صبيﱟ، هذا لونٌ من ألوان المطايبة، المطايبةُ حديثٌ وسُلوكٌ بينَ الـمُحِبـﱢـين، فكأنَّ اللَّهَ سُبحانهُ وتعالى يُصَوﱢرُ نفسَهُ مخلوقاً هُنا..
ويقولُ لنبيِّهِ في سورةِ فاطر، الآيةِ الثامنةِ بعد البسملة: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات - لا تُهْلِك نفسَكَ يا رَسُولَ اللّه، ذَهابُ النَّفس الهلاك - إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، فهل كانَ النَّبيُّ تذهبُ نفسهُ حسراتٍ على هؤلاء؟!
في سورة الكهف، الآيةِ السادسةِ بعدَ البسملة: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ - "باخِعٌ"؛ قاتلٌ، فلعلَّكَ قاتلٌ نفسَكَ يا مُحَمَّد - إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾، فهل كانَ النَّبيُّ هكذا؟ هذا لونُ مُطايبةٍ، حديثُ حبيبٍ معَ حبيبهِ..
في سورة الشعراء، الآيةِ الثالثةِ بعدَ البسملة: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾، لعلَّك قاتِلٌ نفسَكَ أنْ لا يكونوا مؤمنين.
حديثُ مُطايبةٍ ومُؤانسة فيما بينَ اللّهِ وَكَلِيمهِ موسى حينما ذهبَ موسى للميقات وكانَ مُستعجلاً سبقَ قومَهُ: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى - فهل كانَ اللَّهُ لا يعلَم؟! - قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ فهل كانَ موسى يعتقدُ أنَّ اللّه لا يعلَمُ هذا الَّذي يقوله؟! هذا حديثُ مُطايبةٍ..
لابُدَّ أن تعرفوا أنَّ مستوىً من مُستويات القُرآنِ يتجدَّدُ في كُلﱢ زمانٍ، في (نهج البلاغة الشريف)، طبعةُ دار التعارف/ بيروت - لبنان/ الصفحةُ الثامنةُ والأربعون بعدَ المئة، الخطبةُ الخمسون بعدَ المئة، أميرُ المؤمنين يتحدَّثُ عن زمانِ الغَيْبَةِ الطويلة وعن الفِتَنِ المتلاحقة وعن مَوقِفِ إمامِ زَماننا وعن حالِ الشيعةِ الـمُخْلِصينَ في زمان الغَيبَة، يقول:
(تُجْلَىٰ بِالْتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُم وَيُرْمَىٰ بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهِم)، في زمان الغَيبَةِ الكلامُ هُنا ليسَ عن كُتُبٍ كُتبت في التفسير ولا حتَّى عن الأحاديث التفسيريَّة هذا تفسيرٌ جديدٌ يتجدَّدُ في كُلﱢ زمان، نحنُ في مرحلة التَّأويل، ومرحلةُ التَّأويل مرحلةٌ تكامليَّة، مرحلةٌ تدريجيَّة يكونُ البيانُ فيها تدريجيَّاً تارةً بنحوٍ مُباشر وأخرى بأسلوب التَّفهِيم، وهذا هو الَّذي يتحدَّثُ عنهُ أمير المؤمنين..
- وَيُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوح)، هؤلاء الَّذينَ هُم على دِين العترة وليسَ أولئكَ الَّذينَ هُم على دين الطوسي..
في سورةِ طه، الآيةُ الثالثةُ والثمانون بعدَ البسملةِ والَّتي بعدَها، إذا رجعتُ بكم إلى أوائلِ سورةِ طه: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ - الآيةُ التاسعةُ بعدَ البسملةِ وما بعدَها - إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَىٰ النَّارِ هُدًى ۞ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ - بدأ الخِطابُ مِنَ اللّه - يَا مُوسَىٰ۞ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ - حديثُ مُؤانسةٍ فيما بينَ حبيبٍ ومحبوبهِ - إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ۞ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ ۞ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ۞ إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيَهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ ۞ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ۞ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ - هل كانَ اللّهُ لا يعلَمُ ما بيمين موسى! فماذا قالَ موسى؟ إنَّهُ في لحظةِ أُنسٍ - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ - هل كانَ اللّهُ لا يعرفُ هذا؟! هل كانَ موسى يعتقدُ بأنَّ اللّه يُريدُ أن يعرِفَ هذهِ الأمور؟! الجوابُ على قدر السؤال وموسى نبيٌّ حكيم، يقول عصاي وينتهي الأمر، أخذ يُعرِّفُها هي بضمير الشأن، حديثُ مؤانسةٍ هذا - قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ - ألقِهَا - فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ۞ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ ۞ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ ۞ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَىٰ﴾.
ثُمَّ جاء الأمر بعدَ أن عاش الاستئناسَ في الحديثِ معَ اللّه: ﴿اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ۞ قَالَ رَبﱢ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۞ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي - محادثةٌ مباشرة - وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ۞ يَفْقَهُوا قَوْلِي ۞ وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي - من أوَّلِ لحظةٍ ولذا فإنَّ عليَّاً معَ النَّبيّ من أوَّلِ لحظةٍ من لحظات البعثة كانَ شريكاً مع رَسول اللّه - هَارُونَ أَخِي ۞ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ۞ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ۞ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ۞ وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً - العِبادةُ في مستوىً واحد - إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ۞ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ﴾، هارونُ معه من اللَّحظةِ الأولى، لأنَّ هارونَ كانَ في مِصر وموسى في طريقهِ إلى مِصر جاء من الشام، "قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ"، مُدلَّلٌ أنتَ يا مُوسى أوتيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى لَكَ ما تُريد، حديثُ مُطايبةٍ وحديثُ مُؤانسة.
ثُمَّ يُذَكِّرهُ اللّه: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ ۞ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ ۞ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ﴾، إلى آخرِ ما جاء في الآيات هذا كلامُ اللّهِ مع موسى في حِوارٍ مُتَّصل وأكثرُ الكلامِ مُؤانسةٌ كانَ بإمكانِ اللّهِ أن يقولَ لهُ من البدايةِ أنا اللّه أنتَ عبدي اِذهب إلى فرعون وينتهي الكلام، لِماذا كُلُّ هذا التطويل؟! هذا هو حديثُ الأُنْس حديثُ الـمُطايبة..
هذهِ الآياتُ الَّتي سألَ عنها السائلُ العزيز آياتٌ في سياق المطايبةِ والمؤانسة..
العنوان | الطول | روابط | البرنامج | المجموعة | الوثاق |
---|